مقاربة تحليلية حول ظاهرة الهجرة السرية ـ العلنية

تقرير مكتب جريدة الدروة 24 بتطوان : الإعلامي عبدالإله الوزاني التهامي

يعترف أغلب الدارسين والمهتمين بموضوع الهجرة بوجود صعوبة كبيرة في التوصل إلى تعريف دقيق جامع مانع يسلط الضوء على ظاهرة الهجرة “السرية” من نواحيها المختلفة.

لهذا نجد تباينا واختلافا واضحين في نعت هذه الظاهرة إعلاميا، فمن “الهجرة غير القانونية” أو “الهجرة السرية”، وصولا إلى نعتها بصفات قريبة من “الأعمال الإجرامية” أو الاشتباه في ارتباطها ب”الشبكات الإرهابية”..(؟)
وتلخصها دراسات بأنها نتيجة مباشرة أو غير مباشر لاستشراء الفساد والاستبداد ونهب الثروات الوطنية وكذا نتيجة اختلال التوازن في الدورات المالية عبر العالم.
ولمعرفة بعض حقائق الهجرة عموما، والهجرة السرية خصوصا أنجزنا هذه المقاربة.
تعتبر ظاهرة الهجرة السكانية قديمة قدم الجنس البشري، إلا أنها في عصرنا الحديث تعدت كل الحدود الوطنية والإقليمية، وشملت فئات متفاوتة ومتباينة، من كل الأعمار والجنسيات والأعراق والسلالات والمستويات الثقافية والاقتصادية والتخصصات المهنية.
ونظرا لملازمة الهجرة للإنسان منذ وجوده، فقد كانت عاملا فعالا ومؤثرا في انتشار الجنس البشري، انطلاقا من موطنه الأصلي نحو مناطق جديدة، حيث تم تعمير الأرض وظهرت مجتمعات وثقافات إنسانية مختلفة.
والهجرة ظاهرة شمولية ومعقدة بطبيعتها وبأشكالها وبنتائجها. لهذا فمقاربتها يمكن أن تتم من عدة جوانب: اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية وقانونية.
وعلى هذا الأساس، قام الباحثون في العلوم الإنسانية بمحاولة لتفسير الظاهرة، وذلك انطلاقا من التعرف على أسبابها، وانتهوا إلى عدد من الحقائق التي تلقي الضوء على المقصود بها وعواملها وتقديرها ونتائجها.
فما المقصود إذن بالهجرة…؟
وهل يمكن الحديث عن إطار نظري لتفسير الظاهرة…؟ وماهي تصنيفاتها وعواملها ونتائجها، أي أضرارها ومنافعها..؟
الهجرة كممارسة عملية، تزايدت معدلاتها في العالم اليوم، على نحو ملحوظ، نتيجة لتغير نظام العمل والإنتاج، ومن هنا ينظر إلى الهجرة باعتبارها علامة بارزة على التغير الاجتماعي، بدليل ارتفاع وتيرة التحركات السكانية، نحو المراكز المنتعشة اقتصاديا بالأساس. وبهذا تكون الهجرة بمثابة “عملية انتقال أو تحول أو تغير فيزيقي لفرد أو جماعة من منطقة إلى أخرى داخل حدود بلد واحد، أو من منطقة إلى أخرى خارجية إقليميا أو عالميا.
وتعرف كذلك بأنها حركة سكانية يتم فيها انتقال الفرد أو الجماعة من الموطن الأصلي إلى مكان آخر يختاره المهاجر لأسباب تتعلق بالظروف التي دفعته للهجرة.

التحليل النظري للهجرة:
إن اختيار إطار نظري معين، يعني معالجة الموضوع من زوايا خاصة وإهمال زوايا أخرى. ونظرا لتداخل عدة عوامل، اقتصادية وإحصائية، فإن هناك تفسيرات مختلفة لظاهرة الهجرة، فهناك أولا:

نظرية الدفع والجذب، من هذا المنطلق فظاهرة الهجرة هي نتيجة لوجود بيئتين مختلفتين، و يتجلى اختلافهما في عوامل كل واحدة منهما، فهناك العوامل الطاردة في بلدان المنشأ، وهناك العوامل الجاذبة في بلدان المهجر/الاستقبال.
وأول من استعمل نظرية الدفع والجذب هو “رافونستاين ـ ـ Ravenstein”.
أــ العوامل الدافعة/الطاردة:
التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وعدم وجود سياسات فعالة فيما يخص توظيف الطاقة البشرية/اليد العاملة والأدمغة المبتكرة، البطالة وانخفاض الأجور، غموض المستقبل، اضطراب المشهد السياسي، انتهاك حقوق الإنسان، الفساد الإداري والمالي، عشوائية نظام التربية والتكوين، …
ب ــ العوامل الجاذبة:
رقي مظاهر التمدن، ارتفاع الأجور، تنوع فرص الشغل، حاضر مطمئن يبشر بمستقبل زاهر، التطور السريع في المجال العلمي والتقني، حرية التعبير والديموقراطية …
نظرية النزاعية” ـ – L ecole du conflit”
يؤكد أصحاب هذه النظرية ـ المدرسة ـ على أن نمو الثورة الرأسمالية التي دمرت النظم التقليدية للإنتاج، وأحدثت في نفس الوقت انفجارا سكانيا وفائضا في السكان الذين لا يستطيعون أن يجدوا عملا في أوطانهم، ومن ثم يهاجرون لسد حاجاتهم.
ويرى أصحاب هذه النظرية أيضا، أن التقدم والتخلف هما وجهان لعملة واحدة، والمتمثلة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي يعتمد من أجل بقائه على استمرار وضعية اللآمساواة الاقتصادية على الصعيد العالمي.
فالهجرة هي نتيجة لعدم التوازن التي تحدثه الاتصالات المالية والتجارية وغيرها بين الوحدات غير المتساوية اقتصاديا، حيث تجذب الوحدة الأقوى ذلك الفائض الذي عند الوحدة الأضعف، ويعتبر هذا الفائض جيشا احتياطيا لدى الرأسمال ليتصرف فيه بمحض حريته، مما يؤثر على المزايا المكتسبة للعمال الآخرين ـ تجدر الإشارة إلى أن إثارتنا للدافع الاقتصادي لظاهرة الهجرة لا تحجب الدوافع الأخرى، السياسية، النفسية، والشخصية … ـ
ــ تصنيف الهجرة:
تتنوع حالات الهجرة بتنوع أسبابها ووسائلها، ويمكن تصنيفها إما على أساس المكان الذي يتم الانتقال إليه أو على أساس إرادة المهاجر، أو على أساس الزمن الذي تستغرقه العملية.
ـ تصنيف الهجرة حسب المكان:
وهي إما داخلية ـ داخل الوطن ـ أو خارجية ـ دولية، خارج الحدود .
أـ الهجرة الداخلية: أي انتقال الأفراد والجماعات داخل حدود المجتمع الواحد، وذلك بالترحال من منطقة لأخرى، ومنها على وجه الخصوص الهجرة من القرى والبوادي نحو المدن. وكذا الهجرة من جهة أو إقليم إلى جهة أو إقليم آخر، كالهجرة من الداخل بالنسبة للمغرب نحو المدن الشمالية.
ب: الهجرة الخارجية: وهي رحيل عدد من أفراد المجتمع إلى دولة أخرى، وذلك رغبة أو رهبة، رغبة في الحصول على عمل وعيش كريم، أو فرارا من اضطهاد حكم نظام مستبد، أو هربا من حرب أو كوارث طبيعية.

ومن باب آخر، يمكن تصنيف الهجرة حسب القائمين بها:
أـ الهجرة الإرادية: وهي التي يقوم بها الأفراد أو الجماعات بمحض إرادتهم من منطقة أو بلد نحو جهة أخرى، دون ضغط أو إكراه.
ب ـ الهجرة القسرية: أي الاضطرارية، وهي تنقل أفراد أو جماعات من أماكنهم الأصلية إلى أخرى مرغمين بدوافع طبيعية كالجفاف أو الزلازل أو الفيضانات أو بدافع الحروب أو التهجير القسري ـ فسطين نموذجا ـ .
وتعد عوامل أخرى كالبطالة والفقر وقمع الحريات وغياب الدور التأطيري للأحزاب والجمعيات، من أهم العوامل المباشرة في التشجيع على الهجرة، وتفشي ثقافة اليأس من كل ما هو داخلي مقابل التعلق بالآخر والانبهار بنمط عيشه كل ذلك صورة معبرة عن ما ذهبنا إليه.
تصنيف الهجرة حسب الزمن:
أـ هجرة دائمة: وهي التي يغادر بفعلها المهاجر بلده الأصلي نهائيا ـ مع العودة مرة في العام مثلا ـ ، يذوب بفعلها المهاجر في المجتمع الجديد، فيصبح كالمواطن الأصلي، له ما له وعليه ما عليه.
ب ـ هجرة مؤقتة: وهي المتصلة أساسا بميادين العمل الموسمية، كالفلاحة والسياحة و.. ، حيث يقضي المهاجر شهورا معدودة في العمل، ثم يعود إلى بلده الأصلي، دون أن يتأثر ـ أو يؤثر ـ في محيط البلد المضيف أو ينصهر في نسيجه الاجتماعي والثقافي.
ـ أسباب الهجرة:
عوامل عدة تساهم في التشجيع على الهجرة، منها:
ـ العامل الاقتصادي: إن البطالة والفقر، وانخفاض الأجور ونقص الطلب على الإنتاج الفردي و.. ، كلها عوامل اقتصادية تدفع المتضرر إلى مغادرة وطنه بالسبل المتوفرة، وذلك نظرا لغياب أمن غذائي وتعليمي و”روحي”، حيث يكاد الفقر أن يكون كفرا ، كفر بكل شيء.
ـ العامل الديمغرافي: إن الانفجار السكاني الذي لا توازيه سياسة محكمة في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، غالبا ما يؤدي إلى الإخلال بأسس التوازن في حياة الشعوب. وبالتالي يتم التفكير بإلحاح في سد الثغرات الناتجة عن ذلك عبر مصادر مختلفة ـ زراعة الكيف، التهريب، الهجرة، .. ـ كل هذا من أجل أن يشبع الإنسان رغباته الطبيعية والحفاظ على وجوده وكينونته بين البشر. لهذا تجد من يعتقد بالفعل بأن “وطنا لا يؤمن لقمة العيش، وطن لا يستحق إلا الهجران”. وقد قال حكيم: “في أذن الجائع لا يسمع إلا صوت يبشر بالخبز”.
ـ العامل السياسي:
نستحضر في هذا الإطار حكمة تقول: “في أذن المقموع لا يسمع إلا صوت يبشر بالحرية”. إذ أن الظلم والاستبداد وغياب الديمقراطية وانتهاك حرمات وحقوق الإنسان، كلها صور لمجتمع متسم بالاضطراب وعدم الاستقرار والسلبية. فلا يأمن الإنسان في مثل هذا المجتمع لا على عرضه ولا على دينه ولا على عقله، الشيء الذي يدفعه إلى البحث عن مكان آمن يقيه شر ما ذكر.

دوافع وأسباب الهجرة السرية ـ العلنية 2/2

✍️بقلم: الإعلامي عبدالإله الوزاني التهامي

العامل الديمغرافي:
إن الانفجار السكاني الذي لا توازيه سياسة محكمة في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، غالبا ما يؤدي إلى الإخلال بأسس التوازن في حياة الشعوب، وبالتالي يتم التفكير تلقائيا وبإلحاح في سد الثغرات الناتجة عن ذلك عبر مصادر مختلفة (زراعة المخدرات، التهريب، الدعارة، المهن العشوائية، الهجرة..)، كل هذا من أجل أن يشبع الإنسان رغباته الطبيعية والحفاظ على وجوده وكينونته بين البشر.
لهذا تجد من يؤمن بالفعل بأن “وطنا لا يؤمن لقمة العيش لمواطنيه، وطن لا يستحق إلا الهجران”(!)، و في ذات السياق قال حكيم: “في أذن الجائع لا يسمع إلا صوت يبشر بالخبز”.

_العامل السياسي: نستحضر في هذا الإطار كما أسلفنا حكمة تقول: “في أذن المقموع لا يسمع إلا صوت يبشر بالحرية”. الظلم والاستبداد وغياب الديمقراطية وانتهاك حرمات وحقوق الإنسان، كلها صور لمجتمع متسم بالاضطراب وعدم الاستقرار والسلبية. فلا يأمن الإنسان في مثل هذا المجتمع لا على عرضه ولا على دينه ولا على عقله، الشيئ الذي يدفعه إلى البحث عن مكان آمن يحفظ فيه كيانه.

_العوامل الدينية والثقافية:
وجود فئة حاكمة أو متنفذة (-لوبيات الضغط)، عنصرية لا تؤمن بثقافة الحوار والتعايش، ومسكونة بهاجس الإقصاء والتسلط، أو مصابة بنزعة استئصال الآخر، هي من أخطر ما يتعرض له الإنسان بفعل ما يحس به من مضايقات ومراقبة، ترغمه على الانزواء، ثم التفكير في الابتعاد عن هذا الوسط (الوطن).
ومن العوامل المختلفة الأخرى نجد عدم الاهتمام بالطاقات والمواهب المحلية الناشئة، وبالتالي عدم توظيفها في مناصب مناسبة لها، يخلف هذا الإقصاء في نفسية الأطر والكوادر الإحساس بالإهانة و الإذلال.
ينضاف إلى هذا، المضايقات والمطاردات المستمرة، التي تطال الأطر والأدمغة المبدعة والمبتكرة. كمثال في مغربنا ما حدث للمهدي المنجرة، عالم المستقبليات الذي اختار اليابان كمنفى اختياري شخصي له وكمكان لتفريغ ما في جعبته من علم، وكذا السياسي الساخر أحمد السنوسي الذي احتضنه الغرب بعدما ضاقت عليه مسارح وفضائيات المغرب، بما رحبت، والفنان المتألق رشيد غلام، وغيرهم كثير.
هذه التصرفات لا تترك للمواطن المغربي سوى بابا وحيدا للأمل-بعد الله و هو باب الهجرة إلى الخارج، حيث الكرامة و الحرية. و تستقبل الدول المضيفة النماذج التي ذكرنا “بصدر رحب و فرح كبير”، نظرا لإدراكها لوزنهم و لمستواهم. يحدث هذا دون أن نعلم يقينا ملموسا من هي اللوبيات الخفية أو الظاهرة التي تقف وراء هذه السياسة والتي لها فيها مصالح محددة. (؟!).

و يقابل العوامل المذكورة أسباب أخرى جاذبة تهم البلدان المضيفة/المستقبلة:
توفر فرص الشغل والكسب، والحصول على دخل أفضل وظروف أحسن، و الحق والحرية في (تأسيس شركات أو المساهمة في أسهمها)، وتوفر ما يشبع رغبات الإنسان الفردية والأسرية، ووجود أوضاع أفضل من حيث المناخ و السكن والتعليم والخدمات الاجتماعية(…)

_الهجرة ما لها وما عليها(مساوئ الهجرة و محاسنها):
أ- مساوئ الهجرة: الهجرة تسبب استنزافا للطاقة والمال، ووأدا لعملية التنمية المعتمدة أساسا على العامل البشري والنوعي، تخطيطا وإدارة وتنفيذا، وبكلمة واحدة، فإنها (الهجرة) تضيع من الأمة والوطن فرصة الاستفادة من خبرة وطاقة أكبادها.
و هناك من يرى بأن هجرة اليد العاملة، زادت في تكريس واقع الدول الثالثية، و أحكمت تبعيتها للغرب، وأخضعت مصيرها له. وهذا هو عين الاستعمار الجديد.
إذن فالهجرة عامل مهم في تكريس هيمنة النظام الرأسمالي اللبرالي على العالم.
و من مساوئ الهجرة أن الأموال المحصل عليها من طرف المهاجر لا يتم استثمارها على الوجه الأمثل في الموطن الأصلي للمهاجر، بل أكثر من ذلك فغالبا ما يتم استقطابها من قبل الدول المضيفة بسببب التسهيلات المغرية في مجال الاستثمار.. وتجدر الإشارة إلى أنه حسب أرقام منشورة، فإن عدد أبناء إقليم الناظور (فقط) الموجودين بالخارج كجالية مهاجرة، قدر بأزيد من 300 ألف شخص. ورغم ذلك، فإن مداخيل هؤلاء من العملة الصعبة لا تستثمر للإسهام في تنمية ورقي مدينة الناظور و ضواحيها -مثلا-، ولا توظف في إنقاذ أبناء المنطقة من الضياع وتأهيلهم لخدمة بلدهم، وقس على هذا الجالية المهاجرة المنحدرة من كل مناطق المغرب.
ب-إيجابية الهجرة إلى جانب التخفيف من ضعط البطالة في العالم الثالثي، فإن للهجرة فوائد أخرى نعد منها امتصاص الكثافة السكانية في أوساط الدول المتخلفة، وكذا استثمار عائدات الفئة المهاجرة وتحويلاتهم في سد العجز في الميزان التجاري. إلى جانب استفادتهم (المهاجرين) من المستجدات و الابتكارات في ميادين الصناعة والمقاولات، بما يتلقونه بشكل عملي من تدريب و تكوين في شتى الميادين.
أما البلدان المستقبلة فهي توظف اليد العاملة بأثمنة رخيصة في أغلب الأحيان، و تشغلها في أعمال شاقة لا يقوى عليها المواطن الأصلي، كميدان البناء و الفلاحة والصناعة والبنية التحتية…(…)
-الهجرة السرية بالمغرب:
بغض النظر عن المصطلحات الشائعة إعلاميا حول الهجرة (الحريك) والمصطلحات اللصيقة بها، مثل “السرية” أو “غير الشرعية” أو “غير القانونية”، فإن كل هذه النعوت بمثابة وجوه كثيرة لعملة واحدة.

وهذه الظاهرة في الحالة المغربية إما اختيارية أو اضطرارية(!؟)
الفارق الصارخ بين دول الشمال المتقدم والمتحرر ودول الجنوب المتخلف و المقيد، جعل الأجيال الصاعدة في دول الجنوب المتخلف والمقيد، تعيش حالات من الاستلاب المبرر بفعل صورة الإنسان الآخر، الصائل فيما يوصف بنعيم الحضارة والتمدن، هذه الحالات من الاستلاب والانجذاب يتعذر دحضها أو تجاوزها، ما دامت حالة أوضاع العالم الثالث (الفقير -المريض) لا تراوح مكانها.
إذن وبناءا على ذلك فما على الراغبين في نفض غبار التخلف إلا الارتماء في أحضان الآخر (الشمال) المتطور مهما كلفهم ذلك من تخل عن الهوية وتنازل عن الكرامة(!)
لا يجادل أحد في أن البطالة والمرض والقمع والرشوة واحتكار مصادر ومواد الخيرات الوطنية، من قبل فئة محدودة معروفة، في الدولة التي تنعت بالمتخلفة والشمولية، يعد من أهم الدوافع الخطيرة التي تجعل من الهجرة فعلا اضطراريا لا اختياريا.
و أما إذا ما اعتبرناها ظاهرة اختيارية في حالات دول الجنوب والدول المتوسطية، خاصة كالمغرب مثلا، فإننا حتما سنجانب الصواب لاعتبارات عدة أهمها أن الهجرة الاختيارية، لا تكون عادة إلا في حالة اليسر والسعة، كهجرة الفئة الباذخة من دول الخليج نحو أوروبا وأمريكا، للاستقرار بهما بشكل دائم أو شبه دائم.
و يدخل في نفس الإطار في الحالة المغربية أفراد (لا جماعات) هم بالخصوص من طبقة مغربنا (الفرنكوفونية المولييرية-) التي راكمت منذ الاستقلال من الرصيد المالي والثروة مالا يحلم سواد المواطنين ببصيص منه، — اللهم لا حسد –.
فلا يعقل أن يهاجر مواطن مغربي بالشكل الذي نسمع أو نرى من صور ومظاهر الخزي والعار والبؤس، وهو يتوفر في بلده على مأوى وعمل شريف وعيش كريم، وينعم بحرية تامة.
فالنظرة السطحية لظاهرة الهجرة في الحالة المغربية، تظهر لنا بأنها اختيارية، في حين إذا ما استعرضنا جزءا من معاناة الشعب المغربي، يتضح لنا بأنها ظاهرة اضطرارية بامتياز. وحسب علمنا ومعلوماتنا الميدانية، فإن الأمر ازداد استفحالا في وقت ما في بعض النقط الساحلية إلى أن بدأت (هذه النقط) تنعت بالبلاد الخالية من الذكور، أي أنها بسبب هجرة الرجال الدائمة عبر القوارب أصبحت فارغة من العنصر الذكوري (!)، و صرح أحد المستجوبين بوادي لاو، مثلا، قائلا:”الهجرة بهذه القرى الساحلية شبيهة بالنزوح الجماعي”. فضلا عن الوافدين إلى هذه النقط من كل بقاع المغرب بهدف الهجرة.
فالهجرة في الحالة المغربية تطورت نتيجة تفاقم الأوضاع الداخلية، و نتيجة احتكاك الجيل الأول و الثاني من المغاربة المقيمين في الخارج، بأبناء بلدهم الأصلي أيام العطل وعبر وسائل التواصل، بما يحملونه من صور الحياة الأوروبية الساحرة لوجدان و شعور الإنسان المقهور. دون أن نغفل خطورة النمو غير المتكافئ بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وما له من انعكاسات سلبية على الدول السائرة في طريق النمو (و الأخرى السائرة في طريق التخلف).
_من مظاهر التخلف:
قررت في هذا الباب أن لا أفصل، لأن الإطالة في شرح الواضحات من… و بالتالي:
“اللي بعينو ما يتلف”. مكتفين بما يلي:
تفشي ظاهرة الأمية، تزايد عدد العاطلين، انخفاض (انعدام) الخدمات الصحية، ضعف التغطية الاجتماعية، الانحراف والإجرام، البغاء والدعارة، ضعف (غياب) البنية التحتية، بطالة مقنعة (ماسحي الأحذية، حراس السيارات، بائعي السجائر..) (…)
هذه النقطة (مظاهر التخلف) تحتاج لوحدها بحثا مستفيضا.

_على سبيل الختم:
يعترف بعض الفضلاء و الغيورين على هذا الوطن بأن التهميش والتهشيم اللذان استهدفا منطقة الشمال المغربي لزمن طويل كلف المغرب ضريبة غالية، باعتبار هذه المنطقة بوابة إفريقيا وبوابة أوربا، لا يمكن إطلاقا القفز عليها أو الاستغناء عنها، لأنه “على الجغرافيا يصنع التاريخ”، تصوروا معي كيف سيكون حال المغرب لو استثمرت الأموال الطائلة التي”أهرقت” في… “الرمال”، لو وظفت على ما يرام في تأسيس البنية التحتية لمناطق الشمال، حتما سيكون المغرب كله بخير. هذا فقط مثال، وأما الحالة فتنطبق على كل مناطق المغرب.
عفا الله عما سلف، لكن هل سنتخذ العبرة من الماضي بنتائجه الحالية و نتدارك الموقف، أم ستبقى صفة “المغرب غير النافع” سارية المفعول بطريقة متحورة، وتحضرني مقولة للأستاذ ابن عزوز حكيم، قالها يوما في فضاء جمعية تطاونية مفادها أنه: لو تم تجهيز و دعم منطقة غمارة لوحدها في المجال الفلاحي لوفرت تغطية كاملة لجميع مناطق الشمال فيما يخص المواد الغذائية الأساسية”. و هذه حقيقة لا ينكرها إلا حسود أو جهول.
لهذا يؤسفنا كثيرا لما تنعت طنجة و تطوان بالمنطلق الرئيسي للعبور نحو أوروبا من طرف الراغبين في الهجرة القادمين من كل أنحاء المغرب، ومن دول أجنبية (إفريقيا جنوب الصحراء). فنجد حسب بعض المصادر بأن الشرطة القضائية بجهة طنجة تطوان ..، قد تمكنت من إيقاف 3232 شخصا سنة 2003، ضمنهم 258 أجنبيا (بتطوان)، أما طنجة فقد أوقفت مصالح الشرطة القضائية في نفس السنة 1587 من بينهم 536 أجنبيا يحملون 27 جنسية.
و تطالعنا الصحف يوميا بأخبار الأعداد الهائلة من المهاجرين الذين يتخذون من طنجة وتطوان مستقرا لهم في انتظار الفوز “بتأشيرة العبور نحو الجنة الموعودة” أوربا.
هكذا أصبت المنطقة محج الراغبين في الهجرة بدلا من أن تكون محج المستثمرين.
و للتذكير، فإن العملية تتم عبر وسائل بحرية كالقوارب والمراكب بمختلف أنواعها، وتكون أيضا بوسائل النقل البري (شاحنات، حافلات، سيارات)، و يتم ذلك بوسائط وحيل متعددة كالوثائق المزورة..، و أما الأطراف ذات اليد الطولي في “ازدهار هذه الظاهرة فهي عبارة عن شبكات متعددة الجنسيات و التخصصات”، رجال سلطة من الضفتين -مهربين -مروجو مخدرات، – حسب معطيات سبق نشرها – تتوزع جنسياتهم بين دول أروبية وعربية وإفريقية، وأغلب المهاجرين يقصدون الدول المتوسطية كإسبانيا وإيطاليا وفرنسا..
وتوقع المتتبعون والملاحظون أن يشكل ملف الهجرة منبع المشاكل المرتقبة بين المغرب وإسبانيا مستقبلا، أكد هذا مثلا الأستاذ العربي المساري قائلا إن “ملف الهجرة سيظل مطروحا بقوة بسبب تخبط المغرب في المشاكل.. إذ سيكون هذا الملف من أسباب التوتر بين البلدين في السنوات المقبلة مع تشديد الإجراءات الأمنية، ونهج الإسبان سياسة صارمة في هذا الملف”.
إن فعالية التشريعات والتدابير المتخذة من أجل القضاء أو الحد من هذه الظاهرة، أبانت عن عدم نجاعتها لأسباب واضحة، تتعلق بتفاقم أرقام البطالة (الحقيقية، لا الرسمية)، وارتفاع معدلات الفقر المدقع التي تعانيه الشرائح المغربية العريضة، وكذا بما يعانيه الأفارقة من جوع ومرض واقتتال.
و أوردت مصادر من لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان التي أشرفت على إعداد القانون <02-03> المتعلق بمحاربة ظاهرة الهجرة السرية، في تعليقها على المقتضيات الزجرية بخصوص هذا الملف، أن المتدخلين أجمعوا على أن الرقابة والحد من ظاهرة الهجرة السرية، لا يتم فقط عن طريق وضع النصوص القانونية، إنما بالإصلاح الجذري للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ومحاربة الدوافع الكامنة وراءها.
فالأمر لا يحتاج فقط تدخلا “نظريا” من طرف مديرية الهجرة و مراقبة الحدود ومرصد الهجرة أو غيرهما من مؤسسات رسمية وغير رسمية، إنما الأمر أكثر عمقا من ذالك إذ يتطلب تغييرا جوهريا في سياسات الدولة العامة، وخاصة اتجاه ظاهرة البطالة والتشغيل وتدبير الثروة، وإصلاح ما أفسدته الأيادي، والقطع مع سياسات الفساد التي عبثت بمصائر العباد و البلاد منذ بزوغ شمس ما يسمى مجازا بالاستقلال.

The owner of this website has made a commitment to accessibility and inclusion, please report any problems that you encounter using the contact form on this website. This site uses the WP ADA Compliance Check plugin to enhance accessibility.
Scroll to Top